في إنجاز يعكس ريادة الكويت العلمية، نشر د.حمد محمد علي ياسين، الأستاذ المشارك في قسم المختبرات الطبية بكلية الطب المساعد في جامعة الكويت، وفريقه البحثي من معهد دسمان للسكري سلسلة من المقالات العلمية في مجلتي The Lancet Diabetes & Endocrinology و Nature Reviews Genetics، وهما المجلتان المصنفتان أولًا عالميًا في مجالي أبحاث الغدد الصماء والوراثة وفقًا لتصنيف Journal Citation Reports (JCR) . هذا النشر المتتالي في منصات علمية مرموقة لا يعكس فقط قيمة البحوث المقدمة، بل يرسّخ أيضًا حضور الكويت على خارطة البحث العلمي العالمي.
المقال الأول، الذي نشر في The Lancet Diabetes & Endocrinology، تناول مسألة صحية تشكل هاجسًا في دول مجلس التعاون الخليجي: الارتفاع الكبير في معدلات السكري من النوع الثاني والسمنة. حيث تشير الإحصاءات إلى أن أكثر من 20–25% من البالغين في بعض دول الخليج، مثل الكويت وقطر، مصابون بداء السكري، وهي نسب تفوق المعدلات العالمية بكثير.
طرح الباحثون فرضية «عدم التوافق التطوّري» لتفسير الارتفاع الكبير في معدلات السمنة والسكري من النوع الثاني في دول الخليج. إذ تاريخيًا، عاش سكان شبه الجزيرة العربية في بيئة قاسية تعاني من شح الموارد وكثرة التنقّل والاعتماد على الجهد البدني الكبير. في مثل هذه الظروف، كان البقاء يعتمد على القدرة على تخزين الطاقة بسرعة وكفاءة، ووجود مقاومة للأنسولين بشكل تكيفي لحماية الجسم من انخفاض السكر. هذه الصفات الجينية التي ساعدت الأسلاف على النجاة في أزمنة الندرة و شح الوارد الغذائية. و لكن في أقل من قرن، تغيّرت البيئة في الخليج جذريًا مع الطفرة النفطية: غذاء وفير، حياة مكيّفة، قلة في النشاط البدني، واعتماد على العمالة في الأعمال الشاقة. ومع وجود عوامل أخرى مثل زواج الأقارب وانتشار طفرات جينية مرتبطة بالسمنة وتخزين الدهون، أصبح سكان المنطقة مثالًا حيًا على التجربة الطبيعية لعدم التوافق التطوّري. باختصار كانت القدرة على تخزين الدهون ومقاومة الإنسولين سمة مفيدة للبقاء أثناء فترات الجوع والمجاعات. لكن هذه السمات ذاتها تحولت اليوم إلى ما يشبه «عبئًا صحياً» يهيئ الأفراد للإصابة بالسمنة والكبد الدهني والسكري من النوع الثاني. هذا التناقض بين الماضي والحاضر – بين الجينات القديمة والبيئة الجديدة – يشكل مثالًا حيًا على ما يسميه العلماء «الخلل التطوري».
خفض مستويات الجلوكوز
لم يقتصر عمل الفريق البحثي على التحليل التطوري فحسب، بل تجاوزه إلى طرح حلول عملية قابلة للنقاش. ففي مقال آخر نُشر في المجلة نفسها، ناقش الباحثون فكرة إعادة النظر في العتبات التشخيصية لمرض السكري في المجتمعات ذات المعدلات المرتفعة من المرض. جوهر الفكرة أن خفض مستويات الجلوكوز المعتمدة لتشخيص السكري قد يساعد في الكشف المبكر عن الحالات، وبالتالي يتيح فرصًا أكبر للتدخل العلاجي أو الوقائي في وقت مبكر. ويستند هذا الطرح إلى سوابق تاريخية في مجالات صحية أخرى؛ فمثلًا تم خفض عتبات ضغط الدم والرصاص في الدم وتلوث الهواء تدريجيًا مع تزايد الأدلة على أن المستويات «الآمنة» سابقًا لا تزال مرتبطة بأضرار صحية.
ويجادل الباحثون أن تطبيق مبدأ مماثل على السكري قد يفتح الباب لاحتواء الوباء المتفاقم في المنطقة. ومع ذلك، لم يغفل المقال التحديات؛ إذ أن خفض العتبات قد يزيد بشكل كبير من أعداد المصنفين كمرضى مما يفرض ضغوطًا إضافية على الأنظمة الصحية. لكن رغم هذه المخاوف، يبقى الطرح دعوة جريئة لإعادة التفكير في الأدوات السريرية المتاحة، وضبطها بما يتناسب مع الواقع الصحي في الخليج.
دمج البيانات الجينية
و الانتقال الى استراتيجية احتواء هذا المشكلة الصحية، نشر د.حمد ياسين وزملاؤه مقالًا ثالثًا في مجلة Nature Reviews Genetics، طرحوا فيه توجهًا مستقبليًا يقوم على ضرورة دمج البيانات الجينية مع العوامل البيئية (Genome × Exposome) في إطار واحد لفهم الأمراض المزمنة مثل السكري.
أوضح المقال أن التفسير الجيني وحده لا يكفي لتوضيح نسب الإصابة المرتفعة بالسكري والسمنة، وأن العوامل البيئية – مثل التلوث الهوائي، موجات الحر، الغبار، وأنماط الحياة – تلعب دورًا مساويًا وربما أكبر في بعض الأحيان. هذا التوجه الجديد، المعروف بـ «الإكسبوسوم” (Exposome)، يسعى إلى قياس مجمل التعرضات البيئية التي يتعرض لها الفرد عبر حياته، وربطها بالاستعدادات الجينية لتشكيل صورة أكثر دقة عن أسباب المرض. هذا الطرح لا يفتح الباب فقط أمام تطوير سياسات وقائية محلية أكثر فعالية، بل يضع الكويت أيضًا في موقع الريادة لقيادة نموذج عالمي جديد في مجال الطب الشخصي والوقاية الصحية.
ما يميز هذه السلسلة من المقالات ليس فقط الموضوعات التي تناولتها – من التحليل التطوري، مرورًا بالطرح السريري، وصولًا إلى الرؤية الشمولية – وإنما أيضًا مكانة المجلات العلمية التي نُشرت فيها. فمجلة The Lancet Diabetes & Endocrinology تُعتبر الأولى عالميًا في مجال أبحاث الغدد الصماء والسكري، بينما تحتل مجلة Nature Reviews Genetics الصدارة في مجال علم الوراثة. النشر في هذه المجلات لا يتحقق إلا للأعمال التي تتسم بالأصالة العلمية، والقدرة على فتح آفاق جديدة للنقاش العالمي.
بالنسبة لجامعة الكويت يمثل هذا النشر دليلًا عمليًا على أن البحث العلمي الكويتي قادر على الوصول إلى المنصات الأولى عالميًا، كما ان ذلك يبين ان المعرفة التي تُنتج في الكويت يمكن أن تكون جزءًا من الحوار العلمي الدولي، وأن تُسهم في إيجاد حلول لقضايا صحية تمس البشرية جمعاء.