Accessibility Tools

Are you having difficulties using this site?

Contact Us

Academic Opinion

Image

مشغول

«الانشغال نعمة». تتكرر هذه الكلمات علينا بين الفينة والأخرى.. مِمّن يُذكّرنا بآفة الفراغ! قد نشعر معها أن علينا دائماً أن نكون في حالة عمل دؤوب، ليلاً ونهاراً، بين التفكير والتخطيط والتنفيذ، إلا أن أبعاد هذه الكلمات أعمق بكثير. أذكر تلك الكلمات التي وصلت مسامعي ولم يفقهها قلبي إلا بعد مُدّة من الزمن.. في أحد أيام دراستي في الجامعة، وقفت أمام أستاذ المقرر أطلب منه نصيحة خاصة في استكمال الدراسة، جاءتني إجابته بوجه يميل إلى الصرامة: «أنا الآن مشغول، مشغولٌ جداً». في تلك اللحظة تحديداً كان وعيي أقل بكثير من أن أرى أبعاد هذه الكلمات التي خرجت بصورة عفوية مبطنة بنكهة الصرامة اللامبالية، علت الوجه الذي لا يكاد أن يُرى من كثرة الأعباء.
بعد تلك الكلمات: «مشغولٌ جداً» وبدلاً من طرق الأبواب الخارجية، اتجهت إلى الأبواب الداخلية، إلى نفسي، ساعيةً للتأكيد على أحقية الإجابة وطلب النصيحة، وفي خضّم ذلك الإثبات.. أدركت جُهد الأستاذ وأعباءه الكثيرة تجاهنا وتجاه رسالته في هذه الحياة، إذ ما كان هذا الانشغال وما كانت تلك الصرامة إلا حقاً له لتوجيهنا نحو الاستشارة في مكانها الصحيح. كانت كلماته قاسية، إلا أنني أراها بوعيي اليوم دَفعةً للانطلاقة بعيداً عن الحيرة ومقارنة تجارب الآخرين وطُرق حياتهم ونقاط وصولهم، هي كلمات دعتني إلى الانشغال بنفسي، إلى التعلّم الذاتي المستمر، إلى الاستثمار الحقيقي في الانشغال في تزكية النفس وتطوير الوعي. وهنا مفترق الطُرق!
تتميز حياة الإنسان في رحلته على الأرض بمبدأ «حرية الاختيار» هو من يقرر نوع الانشغال الذي يختاره ويتحدد على إثره نوع حياته، فمن ينشغل بالخير يحصده ومن ينشغل في الشر يقع فيه، وبينهما فراغٌ خانق يُجبره على اختيار أحد الطريقين. هنا تأتي الفروقات بين الناس وتتكشف النيات عبر الانشغال، فنجد من ينشغل بوسائل التواصل الاجتماعي مُعطياً الفائدة والخير ومن يجرّب الألعاب والتصوير المباشر بغير هدف؛ فتُفقد معها هيبته وقد تسلبه كرامته! ومن ينشغل في تطوير نفسه من خلال الهوايات وصقل المهارات ومن يتتبع أخبار الناس خلف الشاشات وعبر الردود والمحاورات، كُلُّها «انشغالات» لكن أيُّها نعمة؟ ويبقى السؤال الأهم: بماذا ننشغل خلال اليوم؟ ما الذي يُشغلنا؟
 

الحياة الدراسية بألوانها (1)

في هذا الصباح الهادئ العليل، استيقظت كالعادة بهمتي ونشاطي أعد لنفسي فنجان القهوة الممزوج بالحليب، وبينما أنا أُحدق به والملعقة تدور في أركانه، منصتاً بكل هدوء الى تغريد العصافير الذي تتسلل لمسامعي من خلال نافذتي التي هزها نسيم النيل النقي ففتح بها شقا صغيراً سرب إليها هذه الحياة، والتي أعادتني الى طفولتي وأول يوم استيقظت به مستعدا للذهاب الى عالم مبهم اسمه (المدرسة) هذا العالم الذي جعل والدتي «رحمها الله» تحدثني عنه منذ أيام وتجهز لي ملابس وشنطة ودفاتر وألوان وأقلام وأشياء، أجهل لماذا كل تلك الأشياء، كنت أطير من الفرحة عند شراء كل قطعة لي كونها مخصصة «للمدرسة» هذا اللفظ أو المفردة الغريبة عني والتي لا أعي معناها ولكنها مكان محتم علي الذهاب إليه على حد قول أمي (ابن عمتك، ابن جارتنا). وكان يبدو لي ان «المدرسة» تحتاج قوه مثل ابن العمة وابن الجارة، وكنت أتساءل كيف جاءوا بهذه القوة ليذهبوا الى «المدرسة» وأسئلة كثيره تساورني في حينها.
المهم، أخذت فنجان قهوتي الذي أعددته بكل الذكريات وبدأت أتقدم من بلكونتي لاستمتع بالجلوس أمام النيل العظيم وفي ظلال شجرة الياسمين التي كانت تخيم على البلكونة ومع كل هبة نسيم كنت أستنشق عبيرها الآسر الممزوج بأصوات العصافير المغردة لصباح مشرق يبث الأمل والحياة. اتكأت على مقعدي ومع اول رشفة فنجان، تذكرت ذلك الصباح حيث ساقتني والدتي الحبيبة «رحمة الله عليها» بعدما البستني الملابس الخاصة بالمدرسة وحملت عني حقيبتي وسرنا سويا بخطواتها السريعة، وعندما وصلنا، شاهدت بابا ً كبيراً حديدياً اجتزناه الى باحة كبيره فيها أطفال كثيرون يتراكضون هنا وهناك وأصواتهم المتعالية بالضحك والصراخ أفزعتني، وكنت كل ما نظرت الى وجه امي أجدها مبتهجة فأطمئن، دخلنا الى غرفة المشرف أظن في حينها تم ذكر اسمي وسلمت عليه بأمر من الغالية رحمها الله وغفر لها، بعدما ناولتني الحقيبة المدرسية وقالت اليوم هو يومك يا حبيبي وإن شاء الله تتخرج دكتور، وبعد هذه الكلمات غادرت المكان، وأنا في حيرة إلى أين يا أمي لا تتركيني فأنا لا أعرف أحدا هنا، كان هذا لسان حالي حتى اختفت عن ناظري تماماً.
مسك يدي المشرف وقال أذهب يا مناور الى الساحة وتعرف على زملائك وانتظر أن يقرع الجرس وانتبه الى الاصطفاف في الصف الأول فأنت صفك هو أولى رابع. خرجت من مكتب المشرف تائهاً لدي رغبة شديده في البكاء أو اللحاق بأمي، لكنني لم استفق من حالة الذعر هذه إلا بصوت ابن جارتنا وهو يناديني مناور تعال هنا، هنا كان بودي لو أنني أحتضنه وأبكي، لكنني تمالكت نفسي وذهبت مسرعاً إليه وبدأ الخوف يزول عندما شاهدت معظم أصدقائي في الفريج متواجدين مع بعض. وللحديث بقية...

 

قياس النفس وتقييمها

إن القياس بمفهومه الواسع هو عملية تحديد قيم وكم للأشياء أو الموضوعات وفقاً لقواعد متفقة عليها، والقياس في علم النفس شأنه شأن القياس في الموضوعات الأخرى فقياس النفس يهتم بوضع قيم كمية للمتغيرات النفسية والتي تمثل النفس - كما سبق إن أشرنا في مقالة (هل يمكن للنفس أن تُقاس ولماذا؟) – حين يمتزج السلوك والانفعالات (المشاعر) والدوافع والعمليات العقلية وسمات الشخصية وتصدر استجابة ما من الفرد، وبكلمات أخرى فإن القياس النفسي يعنى بتحديد كم القلق مثلاً كانفعال في موقف ما وهل هذا الانفعال يساوي للانتباه كعملية عقلية في نفس الموقف وإن كان يختلف فهل هذا الاختلاف مساويا للاختلاف في موقف آخر، وهل الاختلاف يكون بنفس المقدار لدى شخص آخر؟ كل تلك الأسئلة ممكن أن نجيب عليها من خلال القياس النفسي وباستخدام أداة قياسية مناسبة فنحصل على كم الانفعال ومقدار القدرة العقلية والمتغيرات النفسية الأخرى من خلال عدد ورقم معين يتم تفسيره والحكم عليه في ضوء معايير محدده مسبقاً من قبل الاختصاصيين والباحثين وهذا التفسير والحكم هو ما يطلق عليه اسم التقييم. 
إن طبيعة النفس الإنسانية ومتغيراتها تحتم ارتباط القياس النفسي والتقييم، فلن نستفيد من تحديد الكم بعدد معين دون تفسير هذا العدد ومعرفة ما إذا كان هذا العدد يشير إلى المستوى الطبيعي من السمة أو الخاصية موضوع القياس أم لا. وكمثال هل المزاج بالمستوى الطبيعي أم أعلى فيحتمل وجود هوس ومثال آخر هل القلق بالمستوى المتوقع أو أعلى ويشير إلى نوعاً من «الفوبيا» وللتوضيح أكثر نذكر المثال التالي:
من خلال الملاحظة المباشرة من المعلم فإن أحد الطلاب بدا عليه القلق والتوتر وهو(انفعال) والارتباك أثناء الاختبار وأسرع في الانتهاء من الحل والخروج من الصف (سلوك) ولاحظ المعلم تشتت انتباه (قدرة عقلية) الطالب من خلال إجاباته على أسئلة الاختبار التحصيلي (اختبار المعلم) فقام بتحويله إلى الاختصاصي النفسي المدرسي الذي طبق على الطالب اختبار نفسي وكانت الدرجة تشير إلى قلق مرتفع (انفعال) وتم تطبيق عدد من الإجراءات التشخيصية كمقابلة الطالب الذي ذكر معاناته من تسارع نبضات القلب في كل موقف اختبار يمر فيه،  كما تمت مقابلة كل من ولي الأمر والمعلم وكان أحد أدوار الاختصاصي النفسي إصدار حكم على عملية القياس التي قام بها وتشخيص الطالب “بقلق الاختبارات”. 
إن الاختبار النفسي في المثال السابق يمثل أداة قياسية تكشف عن مستوى قلق الطالب عن طريق رقم معين ليقوم الاختصاصي بتفسير هذا الرقم وإعطاء التشخيص، ومن ثم يتم وضع الخطة العلاجية وهذا ينطبق على المقابلة أيضاً فهي أداة قياسية تستخدم وفق أسس علمية تساعد في التقييم. وبذلك يكون القياس ساعد على فهم وضع الطالب وتشخيص اضطرابه الذي قد يؤثر على مستواه في التحصيل الدراسي ومن ثم يسهل على الاختصاصي بدء العلاج المناسب.
ويرى الباحثون و التربويون إن القياس والتقييم النفسي لا يختلف كثيرا عن القياس والتقييم التربوي ولكن يمكن القول إن الأخير يقيس ويقيم المتغيرات النفسية لدى الطالب في السياقات التربوية والأكاديمية، حيث يفيد القياس والتقييم التربوي في أمور تربوية عديدة مثل الكشف عن الفئات الخاصة كالتفوق والموهبة وصعوبات التعلم ومعرفة قدرات وميول الطلبة والتعرف على  مدى تحقيق الأهداف التربوية، وكما هو معروف فإن الاختبارات التحصيلية كأحد أدوات القياس والتقييم من أهم الإجراءات التي تتم خلال رحلة التدريس والتعليم وخاصة في البلدان العربية وتخصص لها برامج ومناهج تعليمية ليتمكن المعلم من توظيفها بالشكل الأمثل.
وإلى جانب ذلك فإن البحوث النفسية والتربوية والتي تمثل حجر الزاوية بين دراسة وفهم المتغيرات النفسية والجوانب التعلمية وبين الممارسات التربوية الفعلية في كلٌ من الميدانين النفسي والتربوي، فإن تلك البحوث تتم وفق المنهج العلمي الذي يمثل فيه القياس مرحلة مهمة لجمع البيانات واختبارها بشكل موضوعي بعيد عن التحيز لضمان الحصول على نتائج أقرب إلى الدقة يستفيد منها المجتمع.
ومما تجدر الإشارة إليه هو أن موقف القياس والتقييم النفسي او التربوي وتصميم أي أداة قياسية نفسية  لابد أن يتم من قبل المهنيين أو الباحثين أو التربويين وليس غيرهم  فالأشخاص غير الاختصاصيين هم غير مؤهلين لذلك، فمسألة القياس والتقييم النفسي والتربوي مسألة ليست بالبساطة التي يمكننا نتكلم عنه شفهياً أو كتابياً  ، فهو يتعلق بالمتغيرات النفسية للإنسان وتفسير سلوكه الذي تتداخل فيه عوامل كثيرة لا يسعنا المجال لذكرها هنا، هذا من جانب ومن جانب آخر فأن أدوات القياس النفسي لابد من أن تُصمم وفق شروط يحرص خبراء القياس على توفرها لتؤكّد فيما إذا كانت تلك الأدوات جيدة ويمكن استخدامها بثقة وهي شروط أولية تتمثل بالموضوعية والشمول والتقنين بحيث يكون الاختبار يخضع لنفس ظروف الأداء ونفس معايير التصحيح والتفسير ووفق طبيعة المجتمع المعنيّ، وشروط أخرى تسمى بالشروط السيكومترية والتي تتمثل بما يعرف في الأوساط العلمية بـ”الصدق” و”الثبات” فالصدق يعني مدى صلاحية الأداة لقياس ما وضعت لقياسه وأما الثبات فيشير إلى حصول الفرد على نفس الدرجات على نفس الاختبار في حال إعادة الاختبار أو القياس، مما يعني إنه لا يمكن قياس ولا تقييم أي سلوك أو متغير نفسي بتخمين أسئلة عشوائية من غير الأشخاص المؤهلين وطرحها على الأفراد للحصول على تفسير للسلوك أو للتشخيص. 
وفي هذا الصدد نوضح أن التطور التقني والرقمي جعل من القياس والتقييم النفسي والتربوي مجالا علميا يتجه إلى استخدام التكنولوجيا الرقمية والذكاء الصناعي من قبل المهنيين وتصميم أدوات قياس إلكترونية ومختبرات افتراضية للعمل بها عن بعد ووفق الميثاق الأخلاقي للمشتغلين بالمقاييس والاختبارات النفسية. ويجب على أي مستخدم أن يتحقق من أي أداة قياسية إلكترونية متاحة له -  قبل تطبيقها -  بأنها من وضع وتصميم الاختصاصيين والباحثين في المجال لضمان مصداقية نتائجها والتي عادة لابد أن تُدعم بمقابلة الاختصاصي النفسي أو شخص تربوي.
وخلاصة القول إن قياس النفس وتقييمها أمر واقع ومعروف في السياقات العلمية والمهنية لكل من المجالين النفسي والتربوي لا يمكن الاستغناء عنه، بل يجب الاهتمام بتطويره بما يتناسب مع التطورات العلمية والتطور الثوري في التكنولوجيا الرقمية ليستفيد منه العلم النفسي والتربوي في خدمة النفس البشرية التي تمثل محور الحياة. 
 

Image

فُرص

«فُرصة لا تفوتها». تسمع كثيراً هذا التوجيه الحماسي لك، كي تغتنم الفرصة التي أتيحت لك في موقف ما من مواقف الحياة: في الدراسة، في تعلم شيء جديد، في تطوير المهارات، في استكشاف النفس، في العمل، في تكوين علاقات صحية وصداقات حقيقية، في الزواج، في الانجاب.. وغيرها. ورُغم جمال التعبير في الدَّعم والتشجيع إلا أننا لا نعلم أياً من هذه الفرص الآتية هي درسٌ لنا وأيها مكافأة لتغيير حالنا نحو الأفضل؟ 
نحن في طبيعة الحياة لا نعي بتأكيد صريح أن هذه الفرصة الآتية مناسبة في حقيقتها لواقعنا، لقدراتنا، لدرجة تحملنا لها ومحاولتنا لاستثمارها الاستثمار الأمثل للتحول إلى واقع جميل، لكن الله هدى الإنسان بالبصيرة التي تظهر على هيئة شعور أولي تجاه الأحداث والمواقف، بما يُعرف بالحدس. 
ذلك الشعور الداخلي الذي تتوافق معه إمكاناتنا والفرصة المتاحة؛ فتبدأ النفس في هذه اللحظة في إدراك الفرص من ناحية كونها إما ابتلاء أو مُكافأة، بعدها تتوقّد جذوة الشغف ويبدأ الدافع بتحديد الاتجاه الصحيح نحوها؛ إما في البُعد أو اقتناص الفرصة. لكن، رُغم وجود الحدس، إلا أنه لا يعمل إلا بوجود وعيٍ يجعلنا نؤمن به ليقودنا فعلياً إلى الفرص الحقيقية.
حينما يكون الإنسان في حالة من الضياع والانفصال التام عن الذات، لا يُبصر ما في نفسه من قدرات وإمكانات وكنوز خفية أودعها الله البديع فيه، بل يتشكك ولا يسعى لاستكشاف نفسه ولا يثق في قدرتها على التطوّر والعطاء؛ فتزداد فجوة الانفصال وتزداد معها ضغوطات المجتمع عليه في اقتناص الفرص أياً ما كانت، فيكون شغل الإنسان الشاغل في الركض وراء الأرزاق بلا بوصلة، خوفاً من فوات الفرص وضياع العُمر؛ لذلك تأتي الفرص هنا على صورة ابتلاءات تتفاوت في شدّتها تبعاً لوعي الإنسان بذاته، حتى ينسدل الستار عن البصيرة الواعية والحدس الخفي، ويرتقي معه الإنسان إلى مراتب المؤمنين بالله، الذين يؤمنون بقضاء الله وقدره في ألطافه سبحانه في الأرزاق وتوزيعه العادل لفرص الحياة.
إن فُرص الحياة تأتي تبعاً لدرجة وعينا، فإذا كان الوعيّ منخفضا، تتملكنا مشاعر إثبات الذات والخوف من عدم الإنجاز وبالتالي أحكام الآخرين وآرائهم تجاهنا؛ فنتخذ الفرص من باب الغيرة أو الحسد، من ألا تفوت من قبضتنا، خوفاً من النقص! فيذبل معها الشغف الحقيقي ويزداد السخط على الأقدار، وتتحول الفرص إلى دروسٍ في التطهير العميق للنفس، إلى أن يَصْدق الإنسان مع نفسه ويؤمن أن له رسالة حقيقية يقدمها عبر هذه الفرص للبشرية مهما كان نوعها أو حجمها. هذا الوعي المرتفع، يحوّل الفرص لسلم يرتقي بوعي الإنسان الذي ينبع من قلب سليم، عرف رسالته على الأرض وجاء ليرتفع ويتطور، ويسمح لفرصٍ جديدة قيّمة بالظهور تأخذه ومجتمعه أجمع إلى واقع أفضل.

 

Image

الحياة الدراسية بألوانها (2)

نكمل حديث المقال السابق؛ قرع الجرس ووقفنا بالطابور واستمعنا للإرشادات والتوصيات والنصائح من أستاذ الطابور، بعدها ذهبت كل مجموعة للصف المخصص لها، دخل علينا الأستاذ لا أتذكر شيء من تلك اللحظة إلا هيئته وهيبته ذلك الأستاذ الضخم معرفا بنفسه باسم «أستاذ علامة» مكملاً: «ولا تخلوني أضع على وجه كل واحد منكم علامة لذلك التزموا الهدوء»، وبسبب الرعب لم أتذكر منه في ذلك الموقف إلا ما دونت لكم، فمرت الساعة وانا مذهول مرعوب مرتجف وخائف. 
كانت صورة غريبة، انا وأبناء جيلي جالسين أمامنا دفاتر وبأيدينا أقلام وهذا الشخص الضخم يتحدث ويتحدث ويبتسم أحيانا ويعبس أحيانا عن ماذا يتحدث لا اعلم فقد كنت مشدودا للمحيط الغريب والالتزام الاغرب فأصدقائي متسمرون في مقاعدهم هؤلاء الذين يشقون الأرض من شقاوتهم، من هذا الرجل الغريب الذي جعلهم بكل هذا الانصياع، تعاقبت الأيام ومرت السنون، وفي كل عام يمر من السنوات الدراسية أجد نفسي اتشبث أكثر فأكثر في طلب العلم وشغفي لا ينتهي، هذا العلم والانفتاح الذي زاد من وعيي في كل حياتي حتى في انتقاء الاصحاب، فما عاد الصديق الطائش المهمش يعنيني، أصبحت طلباتي تتطور في مواصفات الصديق ورفيق الدرب في العلم وفي الحياة، وأصبحت أكثر نضوجاً في اهتماماتي وما يهمني، فصديق المراحل الابتدائية الصغير في عمره وخبراته، غير ذلك الصديق الذي في المرحلة الثانوية وغير ذلك الصديق في المرحلة الجامعية.
هنا رفعت راسي بكل هدوء الى السماء متأملا زُرقتها التي تخللتها اغصان الياسمين وارتسمت على محياها العصافير المحلقة ذهابا وإيابا، آه أيتها الجامعة فأنت جامعة لكل شيء وبك كل شيء، المرحلة الجامعية بالنسبة لي هي مرحلة مفصلية في حياتي، فهي تختلف كلياً عن مراحل الدراسة العامة في المدارس، فهي المصنع الحقيقي لشخصيتي والتي أعود بكل الفضل لها بصقل شخصيتي وما أنا عليه الآن هو نتاج سنوات الدراسة الجامعية، فالمدرسة أعتبرها كتهيئة للأرض من حرث وزرع بذار والجامعة موسم الحصاد. 
هناك تكونت لي الصداقات الحقيقية شاركوني مقاعد الدراسة ومن بعدها انتقلنا الى سوق العمل وكبرنا وكبرت أحلامنا وما زلنا نحتفظ بكل الود والمودة بين بعضنا البعض، فالزمالة الجامعية هي فريدة من نوعها فقد تتجاوز القرابة وحدود الدم، إنها تثري حياتنا وتمنحها عمقاً ومعنى حقيقياً، إنها رابطة قوية تمثل ملجأ للروح ومصدراً للسعادة والفرح لا ينضب، فالصداقة الجامعية تمنحنا الاستقرار النفسي وتعيننا على عواصف الحياة، فالإنسان بطبعه كائن اجتماعي لا يمكن أن يعيش وحيداً على طول، فالانتماء البشري هو جوهر الوجود، فركزوا يا أبنائي النجباء على الصداقة وكيفيه بنائها والحفاظ عليها، هي أيام أتمنى ان تعيشوها يا أبنائي الطلبة بكل الحب والخير فاحرصوا على ان تعيشوا المرحلة الجامعية بكل اجتهاد وتطلع لوطن يزهو بكم وتزهون به، وفصل صيفي مثمر بجهودكم.
اترككم يرعاكم الله بحفظه لأكمل شرب قهوتي من على شرفتي.

يا الله طالبك يا رب الأرباب
تحفظ الكويت ومن سكن فيها
وتهيء لأميرها كل الأسباب
يقود دفتها للأمام ويحميها
 

«جمعة مباركة»

هذه الرسالة، او بالأحرى هذه العبارة التي تطل علينا مع بزوغ فجر كل يوم جمعة على هواتفنا النقالة، مزينة بالصورالجميلة والألوان المزركشة والنقوشات الإسلامية المتنوعة، أو تأتينا على باقات من الورد، وأحيانا تأتي مكتوبة على صورة سجادة صلاة وسبحة ومبخرة، أو تأتي عبر مقطع فيديو بخلفيات إسلامية وصوت الدعاء يأسر القلب، هذه العبارة التي تصلك من خلال الرسائل الجماعية قد تزعج البعض منا وأنا أيضا مثلكم قد تزعجني لكثرة ورودها من كل الأشخاص على هاتفي وأحيانا تتكرر الصورة نفسها من غير جهة.
من هذا الباب قررت أن أبتعد عن النت فترة من الزمن جازما أن غيابي سيربك من هم حولي فقطع النت أسبوعا كاملا مثلا ليس سهلا على من اعتادوا على تواجدي بينهم ومعهم في مواقع التواصل، فجاء القرار بالابتعاد لمدة عشرة أيام من الأربعاء منتصف الليل حتى نهار الأحد من الأسبوع الذي يليه، ابتعدت عن كل شيء، ونظرا لانشغالي ببعض الأمور الأكاديمية والخاصة مرت تلك الأيام وكأنها يوم واحد.
جاءت لحظة الصفر حيث أنني كنت متلهفاً لفتح الهاتف وإعادة شبك النت، كنت أتخيل أن أصدقاء الطفولة وزملاء الدراسة والعمل والأهل والإخوان والجيران وأبناء العمومة والأقرباء منشغلو  البال وقلقون، يتساءلون ما الذي حصل أو جرى كوني غير متصل على النت، وغير متواصل وكنت أخاطب نفسي وظننتني كنت قاسيا باختفائي وإشغال بالهم.
حين فتحت الهاتف فإذا بهاتفي يغرد ويغرد باستقبال الرسائل من كل حدب وصوب، قد أستغرق دقائق حتى استعاد صوابه وهدأت أصوات هذه المسجات واستقر هاتفي على (لديك عدد ... من الرسائل غير المقروءة). فرحت كثيراً أنني لم أغب عن أذهانهم، لقد افتقدوني بهذه الأيام المعدودة (قلت لنفسي)، ولكن صدمتي تعاظمت حين رأيت بأن كل ما وصل لهاتفي عبارة عن بطاقات وفيديوهات تحمل عبارة «جمعة مباركة»، كل هذا الكم من الرسائل كلها «جمعة مباركة» فتشتها بتوتر علني أجد أحدا يسال عن أحوالي، أو أجد أحدا لاحظ غيابي فلم أجد.
لم أجد بين الرسائل ما يعبر عن الاهتمام، لقد أصبح الأمر عادة لدى الجميع، بطاقة مكررة لا يكلف إرسالها لكل المتواجدين سوى كبسة زر، أهذا ما أصبحنا عليه الآن؟ إنها الحقيقة، لم يعد هناك من يقرأ تلك الرسائل، فقد استلم ثم سلم، استفزتني التجربة فقمت يوم السبت بوضع عبارة على حسابي في مواقع التواصل، قلت فيها: «في صباح يوم هذه الجمعة أدعو الله كذا كذا» كانت مزحة إداعب فيها البعض، لكنني واجهت سيلا من الرد المباشر: (آمين.. آمين)، لم ينتبه أحد من المتفاعلين بأننا في يوم السبت، تيقنت من شكوكي بأن الكثير من الرسائل تمر علينا دون النظر فيها أو معرفة ما تحتويه، فقد أصبح الأمر ديناميكيا محضا.
وأخيراً: فالرسالة الحقيقية عزيزي القارئ هي تلك الرسالة الموجهة لك ولشخصك أنت، أنت بعينك دون غيرك، كلماتها وعباراتها تخصك أنت فقط  لا غيرك، فالاهتمام والاحترام يظهر في هذه العلاقات بتخصيص وخصوصية الرسائل، وليس رسالة إلى الجميع قد لا نعي فحواها. لذلك عندما تأتيك رسالة جماعية بـ «جمعة مباركة» افرح فأنت من ضمن قائمة الاهتمام غير المهمة في جهاز المرسل، و «جمعة مباركة».

 

Image

الموظفون الإداريون.. قصص من خلف الكواليس

موظفو الجامعات هم الوجوه التي لا تظهر في مقدمة المشهد لكن حضورهم العميق يجعل كل تفاصيل الحياة في الإدارات و الكليات ممكنة من عمل اداري و تجهيز  القاعات وتنسيق الجداول إلى متابعة شؤون الطلبة و الخدمات و الامن و الصيانه  والحرص على استقرار كل الإجراءات الإدارية هم النبض الذي لا يتوقف خلف الكواليس.
قصصهم اليومية لا يعرفها الكثيرون لكنها مليئة بالتفاني والمرونة والقدرة على التكيف مع تحديات متغيرة، هم الذين يحملون ثقل التفاصيل الإدارية والمالية و الفنية ويجعلون من الجامعة مساحة يسودها النظام في كل خطوة.
دائماً  الموظف الإداري هو أحد عناصر القوة في  المؤسسة من الداخل وعندما يمتزج الحماس بالطموح والخبرة  نجد موظفين قادرين على تجاوز التحديات وتقديم أفضل ما لديهم بروح عالية.
إن كل مؤسسة ناجحة تحمل في قلبها موظفين لا يكلون عن العطاء يعملون كأنهم يكتبون قصة نجاح لا تحمل أسماءهم لكنها تحمل بصمتهم  كلوحة فنية بشرية تنسجم معًا لتشكيل صورة متكاملة نابضة بالحياة.
في هذه اللوحة لا يمكن لأي قطعة أن تكتمل أو تتألق بدون الأخرى، الموظفون الإداريون بكل مهامهم ومسؤولياتهم المتنوعة هم الركيزة التي تستند إليها العمليات اليومية فهم الرابط الحيوي بين الأقسام العلمية واعضاء هيئة التدريس و الطلاب والإدارات المختلفة تتنوع أدوارهم مما يجعلهم جزءًا لا يتجزأ من نجاح المؤسسة التعليمية.
إن التعاون والتنسيق بين الموظفين بغض النظر عن تخصصاتهم أو خبراتهم يخلق بيئة عمل متناغمة تعكس روح الفريق الواحد هذه الروح هي التي تجعل مجتمعًا حيويًا يعج بالإبداع والتفاعل.
في النهاية الموظف ليس مجرد رقم أو وظيفة بل هو جزء من لوحة فنية حية تشكل بتكاملها صورة الجامعة بأبهى حللها.

 

Image

هل المنهج هو كل ما يتعلمه الطالب؟

تحرص المؤسسات التعليمية مستعينة بجهود التربويين بتصميم مناهج تربوية تعليمية تحدد خارطة الطريق للوصول بالتعليم إلى تحقيق الأهداف التربوية. فالمنهج يوضع بإشراف التربويين والمدرسة « أو المؤسسة التعليمية والأكاديمية أياً كان نوعها» حتى يكون بين يدي المعلم - وكل من يقوم بالتعليم بحسب نوع المؤسسة التعليمية التي ينتمي إليها- ما يلبي التعليم وفق احتياجات التنمية الشاملة والتي يفترض أن تكون «تنمية مستدامة» في وقتنا الحالي.  ويمكن تعريف المنهج التربوي أو الذي يُسمى أحياناً المنهج التعليمي بإنه برنامج يشمل كل الأنشطة والممارسات المطلوبة لتعليم وتدريس الطلاب في المدرسة أو خارجها للوصول بهم إلى أقصى حد من قدراتهم المعرفية والسلوكية من خلال تقديم المعرفة والمعلومات وإكساب القيمّ المتوافقة مع ثقافة وأيدولوجية المجتمع. والقارئ في الأدب التربوي سيجد الكثير من التعاريف تتضمن هذا المعنى، وقد يضيف بعض الباحثين جوانب أخرى إلا إنها لا تغيّر في المعنى الكثير.
وبحسب قول كل من الباحثين عبد الحميد وعلي إن المنهج هو الركيزة الأساسية في المنظومة التربوية فبه يبدأ المعلم تعليم طلبته، وتشتت المعلم وعشوائيتة في التدريس هو المتوقع دون وجود منهج سليم مبني على أسس تعكس الاحتياجات التربوية منهج واضح المكونات. وكما هو معروف في الميدان التربوي أن المنهج العلمي يتكون من الأهداف، المحتوى الدراسي «الكتاب عادة» طرائق التدريس، الأنشطة التعليمية، الوسائل التعليمية والتقويم بأنواعه. 
إن من أهم الأمور التربوية التي يتم ملاحظتها تأثر مفهوم المنهج ومكوناته على مر الأزمان وفي مختلف المجتمعات بعدة أمور منها على سبيل المثال التطورات الاجتماعية والتطورات في النظريات النفسية والتربوية المرتبطة بطبيعة تعلم الإنسان إضافة إلى التقدم التكنولوجي وما أحدثه من تغيرات في السلوكيات الإنسانية والقيم الاجتماعية وهذا ساهم في تعرض المناهج التربوية إلى تحديات كثيرة مما دعا الباحثين والمهنيين إلى الاجتهاد في تطوير المناهج وكانت أحد نتائج ذلك ظهور عدد من المسميات والأنواع للمناهج تساعد على الدراسة الموضوعية لها ومن ثم تطويرها ومن تلك الأنواع  المنهج البيداغوجي المنهج التقليدي المنهج الدراسي المنهج الحديث المنهج الرسمي المنهج الواقعي والمنهج الخفي، وما يُميز تلك المناهج بأنها محددة واضحة ومكتوبة وتحتوي معلومات صريحة ما عدا المنهج الخفي. ويُذكر المنهج الخفي في الأدب التربوي بأسماء مختلفة مثل المنهج غير المكتوب، المنهج الصامت، المنهج غير الرسمي المنهج غير المقصود والنتائج الجانبية للتعلم.
فالمنهج الخفي يُعبر عن الخبرات والممارسات غير المقصودة في العملية التربوية والتعليمية إلا إنها مصاحبة لها، ووضع التربويين تعريفات كثيرة لتوضيح معنى هذا المفهوم وكلها تشمل فكرة واحد هي الجوانب المضمرة في الحياة التربوية سواء كانت إيجابية أو سلبية حيث إن الطلاب قد يتعلمون في المدرسة أو المؤسسة التعليمية أمور غير متوقع تعلمها وقد يتعرضون لخبرات وأحداث أكثر مما تعلنه البرامج والمناهج الرسمية. 
وذكر الدكتور علي وطفه -عضو هيئة التدريس في كلية التربية في جامعة الكويت –أمثله في دراسة له لما قد يتعلمه الطالب خارج المنهج الدراسي اقتبسنا منها ما يلي مع إضافتنا لبعض المضامين النفسية: 
- تعلم الحياة في مجموعة مغلقة - كيف يكون له أدوار مختلفة بحسب المجموعة التي ينتمي لها – التعاون والتضامن مع الآخر- الانضباط والسيطرة على الغضب ونبذ العنف - يتعلم أن يحلم وأن تكون له أهداف - كيف يمكن أن يكون له رأي في أي موضوع - ممكن أن يتعلم أهمية فاعليته الذاتية والاعتماد على النفس يتعلم المديح والكلمة الطيبة وأثرها في النفوس وكيف يقدم الإطراء- ضبط نفسه والصبر والعمل بأعمال لم يكن يرغب بها- تجاوز الحدود الرفض واللامبالاة المراوغة والتهرب من المسئولية في حال عدم جدية المدرسة بتطبيق اللوائح والقوانين- تعلم الحذر من الآخرين لتجنب بخس حقه في نتيجة واجباته والمهمات التعليمية - كيف يتكيف مع التنمر وكيفية صده.
إن الواقع التربوي يُبين لنا إن المنهج الخفي هو منهج يحدث ضمن التفاعل الاجتماعي بين المُنتسبين للمؤسسة التربوية فقد يكون بين الطلاب مع بعضهم البعض، وقد يكون بين المعلم وطلابه، فعندما يحدد المعلم موعد لإعداد المهمات والواجبات الأكاديمية، وعندما يثني المعلم على الطلاب الذين التزموا بهذا الموعد فإنه بذلك يكون قد ُعلم طلابه الانضباط والالتزام بالمواعيد وتحديد الأولويات، ولكن دون أن يصرح بذلك فهو تعلم خفي يدخل في مفهوم المنهج الخفي. 
في الحقيقة إن المنهج الخفي يُخبرنا بأن كل طالب يتعرض لخبرات ذاتية خلال رحلة تعلمه وبلا شك هي خبرات تساهم في رسم شخصية الطالبة وتشكيلها تربوياً، وبذلك يمكن القول إن الطالب يتعلم المنهج والنواتج الجانبية للتعلم بما لها وما عليها من أمور تؤثر وتتأثر بجوانب سيكولوجية عديدة، سنوضحها في المقالة القادمة.

إعداد أستاذة مها خماس السعد
إختصاصية نفسية – قسم علم النفس التربوي – كلية التربية

 

صلينا واعتمرنا

أرجوحة

إن الحياة مليئة بالمتناقضات والمفارقات، والناس معادن وأصناف، فلا تعجب عزيزي القارئ إذا رأيت ما يثير العجب من أفكار الناس وسلوكهم وتصرفاتهم، و اعجب إذا لم تعد تصادف المدهشات والغرائب، ولكن أعجب العجب هو أن تجد إنساناً منحه الله تعالى العقل وحصل على أعلى الشهادات الجامعية، ثم يتنكر لخالقه وعقله وعلمه، فينكر وجود الله سبحانه، ويصر على غيه وضلاله وإلحاده، ولا يكتفي بذلك بل يحاول أن يشكك المؤمنين في عقيدتهم، كي يجرهم إلى الهاوية في الدنيا والآخرة، فيخسروا سعادتهم في العاجلة ويهووا إلى النار والعياذ بالله في الآجلة. 
حدثني صديق لي فقال: أنا كما تعلم موظف في إحدى الدوائر الحكومية - ملتزم بالصلاة منذ طفولتي المبكرة، فقد حرص والدي أن يعلمني الصلاة منذ وعيت، وكان يصطحبني معه إلى المسجد ولا سيما في صلاة الجمعة، فالتصق قلبي ببيوت الله، فإذا دخلت لأصلي شعرت كأني وضعت هموم الدنيا جانباً وأخذت قسطاً من الراحة يساعدني على مواجهة الصعاب والأزمات - وكان يجاورني في المكتب الذي أعمل به أحد الزملاء ولي علاقة طيبة به، إلا أن علاقتنا اقتصرت على وقت الدوام فقط، فلم أزره ولم يزرني، ولا أعلم عن حياته الخاصة سوى أنه متزوج وأب لثلاثة أولاد، وفي أحد الأيام كلفتنا الوزارة بالسفر معاً في مهمة إلى إحدى الدول الأجنبية، فسافرنا في طائرة واحدة ونزلنا في غرفتين متجاورتين في أحد الفنادق الضخمة، وكان لابد أن نذهب معاً ونعود معاً كل يوم لأن مهمتنا واحدة، و ذات مرة تأخرنا في أحد الاجتماعات وكادت تفوتني صلاة الظهر لقرب دخول العصر علينا، فلما خرجنا من الاجتماع قلت لزميلي: هيا نبحث عن مكان نؤدي فيه الصلاة، فرد ما رأيك أن نتغدى أولاً؟ فقلت له لا وقت لدينا، تعال معي، فنحن نستطيع أن نتوضأ ونصلي في هذه الحديقة، لكنه لم يظهر أي حماس وحاول أن يتملص، ولما ألححت عليه التفت إليّ وقال: من صجك تصلي؟ لا يكون مصدقاً في عذاب وحساب وغيره من ...؟!! ولا أكتمك أنني صدمت وذهلت، فما كان يخطر في بالي أنه لا يصلي ولا يؤمن بوجود الله والعياذ بالله من هذا، ليس هذا فحسب، بل حاول أن يثنيني عن الصلاة ويشككني فيها، ولا بد أنه لاحظ دهشتي فأردف وهو يبتسم ابتسامة خبيثة: ما كنت أظن أن عاقلاً مثلك يتمسك بالصلاة إلى هذا الحد! تسارعت الكلمات إلى فمي، لكنني فضلت أن أرد عليه بعد أن أصلي، وأسرعت إلى الحديقة فتوضأت وصليت ثم عدت إليه، وكان قد سبقني إلى مطعم قريب، فتناولنا الغداء معاً، و كانت الابتسامة تملأ وجهي، وفي وجهه علامات تعجب كثيرة، وأحببت أن أريح صاحبي وأرتاح، فقلت له: ماذا تقول عن إنسان يغسل يديه ووجهه ورأسه ورجليه خمس مرات يومياً؟ فأجاب: هذا التصرف محبب وصحي ويجعل صاحبه في يقظة وحيوية دائماً، ولاسيما أن جسم الإنسان معرض في كل لحظة للميكروبات والغبار والأقذار، التي تسبب له المرض والإعياء، فقلت له: أنا ذلك الإنسان الذي يغتسل خمس مرات يومياً، ويفعل ما أفعله مئات الملايين من المصلين، فماذا تفعل أنت؟ فازدادت علامات التعجب في وجهه، ولم ينبس ببنت شفة، فأحببت أن أريحه أكثر، فقلت له: ما رأيك بإنسان منظم أشد التنظيم في وقته ومواعيده؟ فعرف ما أرمي إليه ولم ينطق بكلمة، فبدأت أحدثه عن الصلاة واقتصر حديثي على فوائدها الصحية فقط، فقلت له: أثبتت الدراسات الطبية أن أوقات الصلاة الخمس تنسجم تماماً مع أوقات نشاط الجسم الفسيولوجي، فكأنها تنظم عمله وتضبط إيقاعه، وذلك يجعل أجهزة الجسم تؤدي عملها بأعلى درجة من الكفاءة والطاقة، فوصل عجب صديقي إلى ذروته، فتابعت حديثي: إن حركات الصلاة من سجود وركوع وسوى ذلك، تقوي المفاصل وتلينها وتنشط الدورة الدموية وتقلل الإصابة بمرض الدوالي، إضافة إلى أنها تريح النفس وتخفف التوتر عنها، وتعالج الأرق وتساهم في القضاء على القلق، لأنّ المصلي يَكِلُ أمره إلى الله تعالى، فلا يخاف الغد، فرفع صاحبي يده بصمت وأشار لي أن أتوقف، ثم أخذ نفساً عميقاً وقال لي: منذ تعرفت عليك قبل ثلاث سنوات وأنا أشعر بانجذاب خفي إليك على الرغم من اختلافنا في التفكير والسلوك، وها قد جاءت اللحظة المناسبة لأعرف سر ذلك الانجذاب، فكأن الله سبحانه وتعالى وضعك في طريقي كي تردني إلى الحق والصواب وتزيل تلك الغشاوة عن عيني، فإنني والله ممتن لك لأنك انتشلتني من مستنقع الشك والحيرة والضياع، ودللتني على المحجة البيضاء، فجزاك الله خيراً، لاهتمامك بأصدقائك وإخوانك المسلمين، وتابع: قم بنا نتوضأ ونصلي العصر، وعند عودتنا لأرض الوطن، أعددنا العدة لرحلة ثانية إلى البيت العتيق، لأداء مناسك العمرة، والجدير بالذكر أن صاحبي هو من كان يحدثني عن فوائد العمرة والحج.
أعزائي الطلبة: لا تترددوا أن تكونُوا مثل صديقي مع صديقه، «فالكم النجاح وإجازة سعيدة» روحوا للعمرة وصلُوا وأدعوا لي.

أ.د. مناور بيان الراجحي

 

Image

القوة التربوية الصامتة ووجهة نظرة نفسية

بات معروفاً لدى التربويين إن تعلم الطالب في المدرسة أو المؤسسة التعليمية لا يقتصر على ما تعطيه المناهج من دروس ومعارف وإنما هناك قوى صامتة تساهم في التعلم والتربية تتمثل في المنهج الخفي، ويشار للمنهج الخفي في أدبيات علم التربية على إنه الخبرات والممارسات المصاحبة للعملية التربوية والتي تكون في الغالب غير مقصودة وغير مخطط لها، فهو كل ما يحدث للطالب في الحياة التعليمية الأكاديمية من أحداث يتعلم منها ومواقف تساهم في تشكيل مفاهيمه الحياتية وسلوكياته. 
وكما ذكرت «كاسيريس» في مقالة لها معنونة بـ” تعريف المنهج الخفي: القوة الصامتة وراء نجاح الطلاب” على التربويين النظر إلى الجانب الأعمق في التربية والتعليم وهو المنهج الخفي الذي يعد مفتاح يعزز وجود بيئة إيجابية يمكن للطلاب النجاح بها، حيث إنه يتضمن التفاعلات الاجتماعية التربوية المتمثلة في تفاعل المعلم مع طلبته وتكوين العلاقة الإنسانية معهم وتفاعل الطلبة مع بعضهم البعض وتفاعل الإدارة التربوية مع كافة المنتسبين للمؤسسة التعليمية. وتشير الدراسات السيكولوجية إلى أن التفاعلات الاجتماعية في السياقات التربوية التعليمية كثيراً ما تتأثر وتؤثر بعدد من المتغيرات النفسية كالفروق الفردية، التفكير ومهاراته، تحقيق الذات، وجهة الضبط، ، انتقال أثر التعلم والتعلم بالنمذجة، ومما لاشك فيه إن التعلم هو جوهر التربية والتعليم وبنفس الوقت هو موضوع لعدد من النظريات النفسية التي تناولته بالبحث و الدراسة ففسرت طبيعته وطورت قوانينه لمعرفة كيفية الاستفادة منه في وصف وتفسير والتنبؤ بالسلوك الإنساني. لذا سنركز في الأسطر التالية على توضيح كل من التعلم بالنمذجة وانتقال أثر التعلم كعناصر نفسية أساسية في المنهج الخفي.
التعلم بالنمذجة يعتمد على مبدأ إن الإنسان كائن اجتماعي يتأثر ويؤثر بالجماعة التي يعيش معها فيتم التعلم من خلال تقليد الفرد ومحاكاته لسلوك نموذجٌ ما وقد يكون امر شائع في السياقات التعليمية التربوية أن يقلد الطالب سلوك وأفعال معلمه «القدوة» وبالتالي يتعلم ذلك السلوك دون تخطيط لا من المعلم ولا من الطالب فيتم التعلم بشكل خفي وفقاً لتعريف المنهج الخفي.  فينبغي على المعلم أن يكون مدرك ومتيقظ لهذا الأمر فعلى سبيل المثال على المعلم أن يحرص على الأسلوب الجيد في الكلام والكلمات المهذبة في حديثه ليتعلم طلبته منه وأن يبتعد عن الكلمات السيئة غير اللائقة.
أما انتقال أثر التعلم كمفهوم نفسي تربوي فإنه يشير إلى إمكانية تطبيق المعرفة والتعلم السابق على فهم وتعلم الجديد وهذا هو المتوقع من التعلم والتعليم، فيتمكن الطالب من نقل ما تعلمه إلى خارج المدرس وفي مواقف شبيه بموقف التعلم. فمن المهم أن يؤدي المعلم مهامه التدريسية والتربوية آخذاً في الاعتبار انتقال أثر ما يتعلمه الطالب إلى حياته الشخصية فيحل أي مشكلة يتعرض لها بالطريقة التي تعامل بها ذهنياً في حل المشكلة أو المسألة في الصف، فيفكر بشكل منطقي ويستخدم مهارات التفكير لتجاوز العقبات اليومية سواء في بيئة المدرسة مع أقرانه أو في حياته الاجتماعية خارج أسوار المدرسة. 
وكمثال لانتقال أثر التعلم حل الاختبارات التحصيلية من نوع أسئلة الاختيار من متعدد فهو نوع من الأسئلة الذي يعلم الطالب ـ وبشكل خفي غير مباشر - كيفية التصرف في حال تعرضه لموقف يتضمن عدد من الاختيارات لحله وحل الصراع النفسي إزاء ذلك الموقف باختيار الأفضل أو الأكثر صحة من البدائل.
وفقاً لسعي الحكومات وأصحاب القرار لتحقيق كل ما يساعد في التنمية المستدامة فإن على التربويين والباحثين في المؤسسات التعليمية التربوية تسليط الضوء على المنهج الخفي ليُستثمر في تكوين السلوك المستدام لطلبة العلم. 
وتوضح الدراسات النفسية السلوك المستدام على أنه أي سلوك هادف يظهر من خلال الإجراءات الموجهة للمتطلبات الاجتماعية والفردية لحماية البيئة وتحقيق رفاهية الفرد والمجتمع وبما لا يهدد احتياجات الأجيال القادمة. 
وأي سلوك يمكن اكتسابه أو تعديله بالتعلم بالنمذجة ويمكن انتقال أثر هذا التعلم لمزيد من الخبرات والمواقف ، ولاعتبار إن المنهج الخفي قوة صامت في السياقات التربوية فإنه قد يساهم بشكل كبير في تشكيل السلوكيات والمفاهيم الحياتية للطالب كما ذكرنا في بداية هذه المقالة والذي يجب أن تتمحور حول الاستدامة.
وخلاصة القول إن المنهج الخفي لا يقل أهمية من المنهج الرسمي الذي يصرح به التربويين بل يجدر أن يُدرس ويُبحث بتعاون الباحثين في الميدانيين التربوي والنفسي ويجب الحرص على تثقيف الإدارات التربوية والمعلمين لمعرفة كيفية تحليل وتوظيف القوة الصامتة في الحياة التعليمية والأكاديمية وبما يتناسب مع تغيرات العصر والتطورات المتلاحقة في مجتمع المعرفة والمجتمع العام.

إعداد أستاذة مها خماس السعد
إختصاصية نفسية – قسم علم النفس التربوي – كلية التربية